الطريق الي بدر :
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد, بدأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الطريق الي بدر بالخروج ومن معه في سرّية تامّة، دون ضوضاء ولا ضجيج.
حتّى إنّه ما أعلن الأمرَ إعلانا يبلّغ به الغائب، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إِنَّ لَنَا طَلِبَةً – أي: شيئا نطلبه لا بدّ من إدراكه -، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا)).
بل حتّى تلكم الأجراس الّتي تُعلّق في أعناق الإبل والغنم والبقر عادةً، أمرهم صلّى الله عليه وسلّم بنزعها.
فقد روى الإمام أحمد عن عائشَةَ رضي الله عنها أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بِالْأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ في الطريق الي بدر .
ثمّ جاء النّهي العامّ عن صوت الجرس، سواء في الحرب أو غيرها، لما رواه مسلم عن أبي هريْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ))، وجاء فيه أيضا عن أبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: ((الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ)).
وانطلق الجيش الإسلاميّ .. كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر صحابيّا .. يقول البراء بن عازب رضي الله عنه – كما في حديثه في صحيح البخاري : “اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا عَلَى سِتِّين،َ وَالْأَنْصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ“.
وفي لفظ الإمام البيهقيّ قال البراء رضي الله عنه:”اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَوْمَ بَدْرٍ، وَكُنَّا – أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم – نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلاَثُمِائَةَ وَبِضْعَةَ عَشَرَ كَعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهْرَ .. وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ النَّهْرَ إِلاًّ مُؤْمِنٌ“.
فقد كان إذن امتحانا صعبا لطالوت ومن معه .. وها هو اليوم امتحان آخر لأصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. وسيكون قولهم وشعارهم كقول أتباع طالوت:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية249].
ثلاثمائة وبضعة عشر إذا نظرت إليهم باحثا عن خيل يركبونها لم تَجِد سوى فرسين!.
روى البيهقيّ بسند حسن عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال:”ما كان معنا إلاّ فَرَسَان: فرسٌ للزّبير رضي الله عنه، وفرسٌ للمقداد بن الأسود رضي الله عنه“.
فماذا عن البقيّة ؟ ,لو نظرت إليهم لرأيت آياتٍ من كتاب الله تمشي في قلب الصّحراء {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29] .. {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: من الآية9].
كان أكثرهم لا يملك بعيرا يحمله ويكفيه وعورة ونصب الطّريق .. فكان الإثنان والثّلاثة يتناوبون البعير:
فزيد بن حارثة وابنه وكبشة موالي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتعاقبون بعيرا، وأبو بكر وعمر وعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهم يتعاقبون بعيرا.
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أحد تلكم القلوب الّتي تخفق بالإيمان وتجود بالإحسان، يخبرنا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وزميليه قائلا – فيما رواه الإمام أحمد : “كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ: كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا))”.
يقول ذلك وقد رقّ لمنظرهم وهم يتعاقبون .. ورقّ لحالهم وهم من التّعب والجوع وطول السّفر يتساقطون !.
فاتّجه إلى أرحم الرّاحمين يستمطره رحمةً من عنده لهؤلاء المساكين، فابتهل ولهج قلبه ولسانه.
روى أبو داود والبيهقيّ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ ! اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ ! اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ !)).
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد استخلف على المدينة وعلى الصّلاة: ابنَ أمّ مكتوم رضي الله عنه، فلمّا كان بالرّوحاء ردّ أبا لبابة بنَ عبد المنذر واستعمله على المدينة.
ودفع اللّواء إلى مصعب بن عمير، وراية المهاجرين إلى عليّ بن أبي طالب، والأخرى الّتي للأنصار إلى سعد بن معاذ رضي الله عنهم.
وتحرّك الجميع نحو تلك القافلة مسرعين، يطوون الأرض طيّا,,,
وفي طريقهم رأوا راكباً يسابق الرّيح إليهم ليلحق بهم ! فتوقّف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكان يُدعى ” حرّة الوبَرة ” – وهو موضع يبعد عن المدينة بأربعة أميال,
والجميع لا يدري من القادم ؟!!,
هل هو عثمان بن عفّان رضي الله عنه يسعى لإخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بموت ابنته رقيّة ؟!,,
أو هو رجل لم يعلم بخروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ متأخّرا فخرج خلفه ؟!,,
ليس هذا ولا ذاك .. إنّه رجل مشرك، لكنّه ذو شهامة ومروءة ورجولة.. جاء ليشاركهم قتالهم.
روى مسلم عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: خَرَجَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ، أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ، قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ.
فقَالَ لَهُ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟)) قَالَ: لَا ! قَالَ: ((فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ)).
قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ، أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: ((فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ)).
ثُمَّ رَجَعَ، فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: ((تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ!)) قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:((فَانْطَلِقْ)).
وسار الجيش نحو القافلة.. لكنّ هناك مشكلة وقعت .. وأمر عظيم قد حدث .. أمرٌ لم يَحْسَب المسلمون له حسابا !!,
فقد علمت قريشٌ بخروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوَهم.
وهذا ما سوف نراه لاحقاً إن شاء الله.